فرنسا.. وذاكرة الغيطانى
بينما كنت أتجول ببصرى فى عناوين الصحافة الفرنسية، طالعنى ضوء باهٍ ومبهر عنوانه: جمال الغيطانى.. من صحيفة لوموند العريقة إلى ليبراسيون واسعة الانتشار إلى مجلة الاكسبرس ذائعة الصيت إلى أهم الصحف والمجلات المتخصصة فى الثقافة مثل «بلانيت تير» و«لير» أى اقرأ.. فقد تناولت أقلام عديدة كتاب الغيطانى «نثار المحو» الذى تمت ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتبارى الذين كتبوا عنه فى تأكيد سعادتهم بقراءة هذا العمل «المعتبر» كما قالوا، بلغة راسين وموليير..
أما أنا فقد فرحت مرتين.. مرة لأن جمال الغيطانى من أصدقاء العمر ومرة لأننى أقرأ شيئاً مختلفاً تماماً عما اعتدت قراءته فى هذه الصحف والمجلات من «جديد» النشاط الإرهابى وترويعه للمدنيين. حتى أشرككم فى الفرحة فإن كاتباً مرموقاً مثل روبير سوليه اعتبر أن «وجع» الغيطانى الذى جعله ينام ساعات قليلة كل يوم كان من «حسن حظنا» حيث إنه يقضى ساعات الأرق الليلى فى القراءة والتأمل والسفر بالأحلام.. و«الكتابة»..
ومن ساعات المعاناة خرج دفتر التدوين، الخامس فى السلسلة بعنوان «نثار المحو» وهو الوحيد من المجموعة الذى تمت ترجمته - سوليه الذى «شكر» أرق الغيطانى واعتبره حسن حظ للقارئ، أفاض فى تحليل العمل وكيف أنه كتلة من الفلسفة والتأمل والبحث فى كنه أمور مستعصية، منها الذاكرة على سبيل المثال.. إذ كيف تطفو على سطحها لحظات لم نعرها أى اهتمام فى حينه بينما غاصت فى عمق النسيان لحظات كنا نظنها «خالدة» فى ذاكرتنا؟ يقول سوليه إن الكاتب «دوّن» بغير ترتيب زمنى ما دفعت به «الظروف» إلى السطح.. وجوهاً التقاها، شظايا متفرقة من نقاشات، «دوّت». عطراً فواحا مر خاطفاً.
وأضاف أن الغيطانى فى بحثه واقتفائه لتلك اللحظات غاص فى هذا «النثار الطائر».. وهو يتساءل عن المتحكم فى هذا الانتقاء «اللااختيارى» من الذى يديره فيأتى بلحظات بعينها وبوجوه دون غيرها وأماكن جابها وأكلات تلذذ بمذاقها.. بكتب ونصوص زلزلته وبصور وعطور وألوان من كل ما «اقتنصه» الغيطانى من «الذاكرة»، واحتضانه للحظات التى أبت الاستقرار فى القاع، صاغها صياغة معتبرة ورائعة.
وهو ما كررته صحيفة ليبراسيون التى تطرقت مثل لوموند إلى نشأة الغيطانى - ابن الجنوب حيث إنه من مواليد سوهاج - ولكن تشربت دماؤه بالقاهرة القديمة التى ترعرع فى شوارعها وحواريها وأزقتها وهو ما شددت عليه مجلة الأكسبرس وأبرزت تشبث الغيطانى بهويته وجذوره الراسخة فى الإرث الثقافى الجماعى والتى نقل «نثارها» بشاعرية منسوجة بحنين غاية فى الرقة.
أما «مجلة لير» فقد وصفت العمل بأنه هدية مبدعه الذى هو أحد أكبر أصوات الأدب المصرى المعاصر وشددت على أنه «كاتب الحرية» مع وفائه مع ذلك لجذوره التراثية.
ويضيق المجال عن سرد كل ما قيل عن «الحدث الأدبى» كما اعتبرته الصحافة ولكنى أكرر فرحتى فى أيام عزت فيها الفرحة بأن الوسط الثقافى الفرنسى احتفى بحرارة بالموهبة انطلاقًا من أن الإنسانية لم ولن تتقدم إلا بمفكريها ومبدعيها ومبتكريها.. فتصوروا الفرحة عندما يكون المحتفى به إنسانًا مصريًا.. وإنه جمال الغيطانى!
بقلم فريدة الشوباشى ١١/ ١٢/ ٢٠٠٨