[
فصــل في كون رسالة محمد إلى جميع الإنس والجن
ومما يجب أن يعلم أن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم
إلى جميع الإنس والجن، فلم يبق إنسي ولا جني إلا وجب
عليه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه، فعليه أن
يصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ومن قامت عليه الحجة
برسالته فلم يؤمن به فهو كافر، سواء كان إنسيًا أو جنيًا.
ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين باتفاق المسلمين وقد
استمعت الجن القرآن وولوا إلى قومهم منذرين لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي
بأصحابه ببطن نخلة لما رجع من الطائف،
وأخبره الله بذلك في القرآن بقوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى
مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا
أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ
وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[الأحقاف:29: 32].
وأنزل الله تعالى بعد ذلك: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا
إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنَّهُ
تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ
شَطَطًا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَأَنَّهُ كَانَ
رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:1-6] أي السفيه منا في أظهر قولي العلماء.
وقال غير واحد من السلف: كان الرجل من الإنس
إذا نزل بالوادي قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فلما
استغاثت الإنس بالجن ازدادت الجن طغيانًا وكفرًا كما قال تعالى:
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا وَأَنَّهُمْ
ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:6، 8] وكانت الشياطين ترمي بالشهب قبل أن ينزل القرآن، لكن كانوا أحيانا يسترقون السمع قبل أن يصل الشهاب إلى أحدهم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ملئت السماء حرسًا شديدًا وشهبًا، وصارت الشهب مرصدة لهم قبل أن يسمعوا، كما قالوا: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا} [الجن:9]، وقال تعالى في الآية الأخرى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:210-212]، قالوا: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن:10، 11]، أي على مذاهب شتى، كما قال العلماء: منهم المسلم والمشرك والنصراني والسني والبدعي {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن:12]، أخبروا أنهم لا يعجزونه:لا إن أقاموا في الأرض ولا إن هربوا منه {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا}[الجن:13، 14]أي الظالمون، يقال:أقسط إذا عدل، وقسط إذا جار وظلم، {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن:14ـ22]، أي ملجأ ومعاذًا، {إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} [الجن:23، 24].
ثم لما سمعت الجن القرآن أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وهم جن نصيبين، كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن مسعود، وروى أنه قرأ عليهم سورة الرحمن، وكان إذا قال: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] قالوا:ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد.
ولما اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم سألوه الزاد لهم ولدوابهم فقال:(لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة علفًا لدوابكم) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد لإخوانكم من الجن) وهذا النهي ثابت عنه من وجوه متعددة، وبذلك احتج العلماء على النهي عن الاستنجاء بذلك، وقالوا: فإذا منع من الاستنجاء بما للجن ولدوابهم فما أعد للإنس ولدوابهم من الطعام والعلف أولى وأحرى.
ومحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الإنس والجن، وهذا أعظم قدرًا عند الله تعالى من كون الجن سخروا لسليمان عليه السلام، فإنهم سخروا له يتصرف فيهم بحكم الملك، ومحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم يأمرهم بما أمر الله به ورسوله، لأنه عبد الله ورسوله، ومنزلة العبد الرسول فوق منزلة النبي الملك.
وكفار الجن يدخلون النار بالنص والإجماع، وأما مؤمنوهم فجمهورالعلماء على أنهم يدخلون الجنة، وجمهور العلماء على أن الرسل من الإنس ولم يبعث من الجن رسول. لكن منهم النذر، وهذه المسائل لبسطها موضع آخر.
والمقصود هنا أن الجن مع الإنس على أحوال:
فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه، ويأمر الإنس بذلك، فهذا من أفضل أولياء الله تعالى، وهو في ذلك من خلفاء الرسول ونوابه.
ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له، وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم، ويستعملهم في مباحات له، فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك، وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله تعالى فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول: كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في الشرك وإما في قتل معصوم الدم أو في العدوان عليهم بغير القتل، كتمريضه وإنسائه العلم وغير ذلك من الظلم، وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشة، فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان، ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر، وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص: إما فاسق وإما مذنب غير فاسق، وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات:مثل أن يستعين بهم على الحج، أو أن يطيروا به عند السماع البدعي، أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة، ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكروا به.
وكثير من هؤلاء قد لا يعرف أن ذلك من الجن، بل قد سمع أن أولياء الله لهم كرامات وخوارق للعادات، وليس عنده من حقائق الإيمان ومعرفة القرآن ما يفرق به بين الكرامات الرحمانية وبين التلبيسات الشيطانية، فيمكرون به بحسب اعتقاده، فإن كان مشركًا يعبد الكواكب والأوثان أوهموه أنه ينتفع بتلك العبادة، ويكون قصده الاستشفاع والتوسل ممن صور ذلك الصنم على صورته من ملك أو نبي أو شيخ صالح، فيظن أنه صالح، وتكون عبادته في الحقيقة للشيطان، قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} [سبأ:40، 41] .
ولهذا كان الذين يسجدون للشمس والقمر والكواكب يقصدون السجود لها فيقارنها الشيطان عند سجودهم ليكون سجودهم له، ولهذا يتمثل الشيطان بصورة من يستغيث به المشركون. فإن كان نصرانيًا واستغاث بجرجس أو غيره، جاء الشيطان في صورة جرجس أو من يستغيث به، وإن كان منتسبًا إلى الإسلام واستغاث بشيخ يحسن الظن به من شيوخ المسلمين جاء في صورة ذلك الشيخ، وإن كان من مشركي الهند جاء في صورة من يعظمه ذلك المشرك.
ثم إن الشيخ المستغاث به إن كان ممن له خبرة بالشريعة لم يعرفه الشيطان أنه تمثل لأصحابه المستغيثين به، وإن كان الشيخ ممن لا خبرة له بأقوالهم نقل أقوالهم له فيظن أولئك أن الشيخ سمع أصواتهم من البعد وأجابهم، وإنما هو بتوسط الشيطان.
ولقد أخبر بعض الشيوخ الذين كان قد جرى لهم مثل هذا بصورة مكاشفة ومخاطبة، فقال: يرونني الجن شيئًا براقًا مثل الماء والزجاج، ويمثلون له فيه مايطلب منه الإخبار به، قال: فأخبر الناس به، ويوصلون إلى كلام من استغاث بي من