[center]بدايات الصراع بين اليهود والمسلمين
[size=16] بنو القينقاع:
وصلت أنباء معركة بدر وما أسفرت عنه إلى المدينة، فكان لهذه الأنباء كما ذكرنا وقعُ الصاعقة على رؤوس اليهود، وفوجئوا بذلك، فقال بعضهم حين سمع مقالة زيد بن حارثة وعبد اللّه بن رواحة اللذين بعثهما رسول اللّه (ص) إلى المدينة ليُبشر أهلها بنصر المسلمين وما حلّ بالمشركين: "أحقٌّ هذا؟ أترون محمَّداً قتل هؤلاء الذين يسمي هذان الرجلان ـ زيداً وعبد اللّه بن رواحة ـ فهؤلاء أشراف العرب وملوك النّاس، واللّه لئن كان محمَّد أصاب هؤلاء القوم، لبطنُ الأرض خيرٌ من ظهرها".
وكانت أنباء انتصار المسلمين قد أغاظت المشركين واليهود، وشعروا بأنَّ الخطر يتهدّدهم بعد هذا الانتصار، فازدادوا حقداً وعداءً، فأظهروا الحسد والبغي، وقالوا: "لـم يلقَ محمَّد من يُحسِن القتال، ولو لقينا لاقى عندنا قتالاً لا يشبهه قتال أحد".
ولـم يقتصر الأمر على الكلام، فقد سارع بنو القينقاع إلى نقض الموادعة التي كانت بينهم وبين النبيّ (ص)، حيثُ كان (ص) قد وادعهم حين قدم إلى المدينة مهاجراً.
إزاء هذه المستجدات، حاول النبيّ (ص) أن يهدئ من الأوضاع المتأزمة في المدينة، ونصحهم بالإقلاع عن هذه التصرفات، قائلاً لهم: "يا معشر يهود أسلموا، فواللّه إنَّكم لتعلمون أنّي رسول اللّه قبل أن يوقع اللّه بكم مثل وقعة قريش". وذلك باعتبار أنَّ أولوياته في الصراع كانت مع قريش التي تجدّ في الليل والنهار للقاء المسلمين، وهي منذ أن تركت بدراً، تعدُّ العدّة للقائهم.
وإزاء هذه العنجهية اليهودية، رأوا أن لا قدرة لهم على التعايش مع المسلمين، فردُّوا عليه بكلمات تنمّ عن حقدٍ دفين قائلين له: "يا محمَّد، لا يغرنّك ما لقيت، إنَّك قهرت قوماً أغماراً، وإنّا واللّه أصحاب الحرب، ولئن قاتلتنا لتعلمنّ أنَّك لـم تُقاتل مثلنا". ولكنَّ الرسول(ص)، وبالرغم من اللهجة القاسية التي تحدّثوا بها، أصرّ أن لا يفتح معركة في الداخل، ولكن اليهود كانوا قد حسموا خيارهم في قتال النبيّ(ص) والمسلمين، ورفعوا من وتيرة التحدّي، وبدأوا بشحن الأجواء، حتّى كانت الشرارة التي أشعلت فتيل الانفجار، ووقع ما كان النبيّ (ص) يتحاشاه ويحاول أن يؤجله.
وكان أوّل من كشف عن حقده وضغينته وهزأ بالإسلام وأهله، يهود بني القينقاع، المقيمون داخل المدينة نفسها، وكظم المسلمون غيظهم، وانتظروا ما تتمخض عنه الليالي من مكر اليهود، وحدث أنَّ امرأة من المسلمين زوجة لأحد الأنصار جاءت إلى سوق بني القينقاع، وجلست إلى صائغ هناك، فاجتمع حولها نفرٌ من اليهود، وجاء أحدهم فجلس من ورائها وهي لا تشعر، وعمد إلى طرف ثوبها وهي غافلة فقدّها إلى ظهرها.
فلمّا قامت انكشفت سوءتها، وضحك اليهود منها، وصاحت المرأة، فوثب رجلٌ من المسلمين إلى اليهودي وقتله، فشدّت اليهود على المسلم فقتلوه، وفوق ذلك نبذوا العهد إلى النبيّ (ص) وحاربوه، وتحصنوا في حصنهم، وبذلك كان يهود بني القينقاع أوّل يهود نقضوا عهدهم وأعلنوا الحرب على المسلمين.
إزاء هذا التطوّر، لـم يقف الرسول (ص) مكتوف الأيدي، ورأى أنَّه من اللازم أن يقوم بأيّ عملٍ منعاً لتفاقم الوضع وإعادته إلى ما كان عليه، لأنَّه أمام أيّ حالة من التراخي ستكون نتائجه وخيمة على المسلمين، وسيفسر على أنَّه ضعف منهم، و هذا ما سيدفع بالقوى المتضررة من المشروع الإسلامي إلى التكاتف والانضمام إلى يهود بني القينقاع، فسار إليهم رسول اللّه (ص) فحاصرهم لمدّة خمس عشرة ليلة.
كان النبيّ (ص) يُدرك عمق الخلافات القائمة بين قبائل اليهود في المدينة، لذلك كان مطمئناً إلى أنَّ القبائل الأخرى لن تُساند بني القينقاع، وهذا ما اضطرهم أخيراً إلى الرضوخ لحكم النبيّ (ص)، وهنا تدخّل عبد اللّه بن أبي حليف بني القينقاع على خطّ الصراع، وهذا ما كان الرسول(ص) يخشى حصوله، وطلب من النبيّ(ص) أن يحسن فيهم بعد أن خشي أن يفتك بهم، لأن هذا سيؤثر سلباً على مكانته في المدينة، وهذا ما عبّر عنه ابن أبي نفسه بقوله للرسول (ص): " لا أرسلك حتّى تحسن في حوالي أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إنَّي واللّه امرؤ أخشى الدوائر". وأمام رفض النبيّ(ص) لطلب ابن أبي وإصرار الأخير وإلحاحه، تخوّف النبيّ (ص) من تطوّر الأوضاع إلى حدّ تخرج فيه الأمور عن زمام السيطرة، خاصة أنَّ المنافقين كانوا في ذلك الوقت يشكلّون قوّة كبيرة، وتربطهم مع اليهود والمشركين علاقات متينة، كما أنَّه كان لا يريد إشعال ساحة المدينة، خاصة وأنَّ قريش والقبائل المتحالفة معها في الخارج تتربص بالمسلمين الدوائر، لذلك آثر النبيّ(ص) أخيراً النـزول عند طلب ابن أبي مكرهاً، بعد أن غضب النبيّ(ص) غضباً شديداً، قائلاً له: "هم لك، على أن يخرجوا من المدينة ولا يجاورون بها"، وأعطاهم مهلة ثلاثة أيام للخروج، فرحلوا إلى أذرعات بالشام ولـم يبقوا هناك طويلاً حتّى هلك أكثرهم.
حاول يهود بني القينقاع، بعد صدور الأمر بإجلائهم، اللعب على وتر الأحلاف القديمة والعصبيات الجاهلية، فقد حاولوا استفزاز حليفهم عبادة بن الصامت، الذي كلّف بمهمة إجلائهم عن المدينة، وذكّروه بالحلف الذي كان بينه وبينهم قائلين له: "يا أبا الوليد، من بين الأوس والخزرج ـ ونحن موالوك ـ فعلت هذا بنا؟" ولكنَّ هذا الكلام وكلام عبد اللّه بن أبي لـم يجد أيَّ صدى لديه، وقد كان وإياه بمنـزلة واحدة من الحلف، الذي حاول استنهاض حميته الجاهلية، بقوله: "تبرأت من حلف مواليك، ما هذه يدهم عندك! وذكره مواطن قد أبلوا فيها، كان ردّ عبادة بن الصامت: تغيّرت القلوب وفي الإسلام العهود".
شكّل خروج بني القينقاع من المدينة ضربة قاصمة للقوى المناوئة للمسلمين، وأصابهم بحالة من الخوف والإرباك خاصة في جانب المنافقين، وبذلك خفّ النشاط اليهودي المعادي للمسلمين في المدينة، وكسر شوكة المنافقين، ولكنَّه بالمقابل ازدادت أعداد المنافقين خاصة، بعد أن دخل العديد من اليهود والمشركين في الإسلام وهم في الباطن منافقون، ومن جانبٍ آخر، أظهر المسلمون في المدينة القوّة الأولى، خاصة بعد الانتصار في بدر، وكان اللّه سبحانه وتعالى قد حذّر من خفايا اليهود ونواياهم، حيثُ جاء في قوله تعالى أثناء حوار الرسول (ص) مع عبد اللّه بن أبي: {فترى الذين في قلوبهم مرضٌ يُسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى اللّه أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} (المائدة:52).
كان اليهود في ما مضى يثيرون المشاكل في وجه المسلمين بعدما رأوا الحال التي أصبح عليها الأنصار بعد أن كانوا فريقين متناصرين، وكادوا في بعض الأوقات يصلوا إلى مبتغاهم في تحطيم وحدة المسلمين ودفعهم إلى التقاتل، كما حدث عند (مرشاس بن قيس)، وكان شديد الحقد على المسلمين، فأمر شاباً من اليهود بأن يذكرهم بيوم (بعاث) ففعل، وتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا، حتّى وصل بهم إلى الاحتكام إلى السّلاح، فوصل الخبر إلى الرسول (ص) الذي حضر في اللحظة الأخيرة، وحال بحكمته المعهودة دون وقوع القتال، واستخدم اليهود العديد من الوسائل في سبيل إضعاف الدين الجديد، وقال بعضهم لبعض: "تعالوا نؤمن بما أنزل على محمَّد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتّى نلبس عليهم دينهم لعلّهم يصنعون كما نصنع، ويرجعون عن دينه".
وقد فضح القرآن الكريـم ادّعاءات اليهود الإيمانية، وأبطل مزاعمهم، حيث جاء في قوله تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحقّ مصدّقاً لما معهم قل فلِمَ تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين. ولقد جاءكم موسى بالبينات ثُمَّ اتخذتـم العجل من بعده وأنتم ظالمون} (البقرة:91ـ92).
الاغتيالات السياسية
استثمر النبيّ(ص) انتصاره في معركة بدر أيَّما استثمار، وقام بسلسلة من العمليات الأمنية بتصفية الشخصيات التي كانت تشكّل خطراً على الإسلام ومسيرته، ومن هذه الشخصيات:
أبو عفك (أحد بني عمرو بن عوف) الذي كان يُرسل الأشعار يهجو بها محمَّداً(ص) والمسلمين، ويحرّض بها قومه على الخروج عليهم.
وظلّ على هذه الحالة بعد بدر، فقتله سالـم بن عمير، وكان ذلك في ليلة صائفة، وكان فيها أبو عفك نائماً بفناء داره، فوضع سالـم على كبده السيف حتّى غشي في الفراش، وكذلك عصماء بنت مروان من بني أميّة بن زيد التي كانت تعيب الإسلام وتحرّض على النبيّ (ص) وقالت شعراً في ذمه، وقتلها عمير بن عوف غيلة.
ومن الشخصيات التي تعقبها المسلمون وكان لها تأثير كبير على مجريات الأمور في المدينة، كعب بن الأشرف، وهو من عشيرة طي وأمّه من بني النضير، وكان يؤذي رسول اللّه (ص) ويهجوه، وكان عندما وافته أخبار بدر قال: "هؤلاء أشراف وملوك النّاس، واللّه لئن كان محمَّد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خيرٌ من ظهرها"، وذهب إلى مكة بعد معركة بدر يحرّض قريش على النبيّ(ص)، ولما سأله أبو سفيان: "أناشدك اللّه، أديننا أحبّ إلى اللّه أم دين محمَّد وأصحابه؟ وأيّ أهدى إلى ربّك وأقرب إلى الحقّ؟" قال له كعب: "أنتم أهدى منه سبيلاً وأقرب إلى الحقّ" فأنزل اللّه تعالى: {ألـم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً* أولئك الذين لعنهم اللّه ومن يلعن اللّه فلن تجد له نصيراً} (النساء:51ـ52).
ولـم يلبث كعب أن عاد إلى المدينة وهو يعلن العداوة للإسلام ويحرّض النّاس على الحرب، وجعل يشبب بأم الفضل بنت الحارث وغيرها من نساء المسلمين.
وكان الرسول(ص) قد أمهله فترة نظراً لحراجة الموقف وما يمكن أن يشكله التعرّض له من احتكاك مع اليهود، ذلك أنَّ أمّه كانت من بني النضير كما سلف، ولـم يكن النبيّ (ص) يرغب في فتح صراع داخلي مع بني النضير، ولكن مع تمادي يهود بني النضير ومحاولة مساعدة مشركي قريش عبر القيام بتزويدها بالطعام والخمر وتقديـم معلومات أمنية تتعلّق بأوضاع المسلمين وتحركاتهم في المدينة، فضلاً عن إقامة مؤامرة لقتله للثأر منه ومن أصحابه بمن أصيب منهم يوم بدر ما جعله يشكّل خطراً حقيقياً على الدعوة، وهنا أهدر المسلمون دمه.
وأوكل النبيّ(ص) محمَّد بن مسلمة مع بعض المسلمين بمهمة قتله فقتلوه، وكان ذلك بعد أن استأذن محمَّد بن مسلمة وأبو نائلة النبيّ(ص) في أن يقولا فيه ما يطمئن اليهودي إلى تبرئتهما في الإسلام، وبعد أن استأمناه وطمأناه، قصداه في الليلة التالية، واستدرجاه إلى الحصن، وقام المسلمون بقتله.
كان لمقتل كعب تأثير مباشر على اليهود، حيثُ انهارت معنوياتهم ودبّ الرعب في قلوبهم، وأتبع الرسول(ص) ذلك، حيثُ أمر المسلمين بقتل كلّ من وجدوه من اليهود بقوله: "من ظفرتـم به من رجال يهود فاقتلوه"، في محاولة منه لزرع الرعب في نفوس اليهود والمنافقين والذين يعادون المسلمين فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة، وهو رجلٌ من تجار اليهود فقتله، فخافت عند ذلك اليهود، فلم يطلع عظيم من عظمائهم، ولـم ينطقوا، وخافوا أن يبيّتوا كما بيّت ابن الأشرف، وفزعوا ومن معهم من المشركين، وجاءوا إلى النبيّ يعرضون عليه القضية وبأنَّه "قتل غيلة بلا جرح ولا حدث علمناه"، ولكنَّ الرسول (ص) أجاب بأنَّه كان قد نال من المسلمين وآذاهـم وهجاهـم بالشعر، ولـم يفعل هذا أحد فيكم إلاَّ كان له السيف.
كان لهذه العملية وما تبعها من عمليات أخرى الأثر الكبير على كبح جماح اليهود والمشركين وإيقافهم عند حدّهم كما روي، وتتابعت العمليات بعد ذلك ضدّ شخصيات أخرى، منها أبو رافع اليهودي الذي كان يظاهر ابن الأشرف ويؤذي رسول اللّه(ص) ويبغي عليه، فأرسل إليه النبيّ(ص) أبا عتيك [size=16]مع رجال من الأنصار، فقتلوه في حصن له بأرض الحجاز[