دائماً يقال أن الأسرة هي نواة المجتمع ، لكن إذا كان الهدف هو الحصول على مجتمع صالح فليست كل أسرة يمكن أن تكون نواة لهذا المجتمع .
الأسرة الصالحة فقط هي القادرة على تكوين مجتمع صالح تسوده القيم والمبادئ الإنسانية القويمة .
لكن هل من السهل الحصول على هذا النوع من الأسر ؟
أم أنها أصبحت ضرب من الخيال وأعجوبة نادرة الحدوث في القرن الواحد والعشرين ؟
الأمر ليس بالصعب ولا مستحيل .
فلو رجعنا إلى عصر بداية الإسلام وكيف بدأ الإسلام ضعيفاً غريباً وبدأ برجل واحد وهو رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم –
ثم بالتدريج وشيئاً فشيئاً اتسعت الدائرة حتى عمّ الإسلام أرجاء المعمورة وأصبحت هناك أمة إسلامية قوية مهيبة لها مكانتها في العالم .
لو تأملنا كيف تكوّن المجتمع الإسلامي السليم لوجدنا أن أساسه كان بيت النبوة القائم على دعائم من التفاهم والحب والرحمة والمودة ،
وهذا ما أهّله أن يكون بذرة ونواة للمجتمع الإسلامي المتماسك الصالح الذي نشأ فيما بعد .
ولو قارنّا بين الظروف الصعبة وحالة الفقر التي كانت تسود المجتمع الإسلامي في بدايته وبين وسائل الراحة المتاحة في عصرنا هذا ،
لعرفنا أن تكوين مجتمع صالح ليس له علاقة بالغنى والفقر ولا الظروف الصعبة أو الرفاهية ،
إنما السبيل الوحيد هو اتباع تعاليم الإسلام والسير على خطى النبي صلى الله عليه وسلم .
إن الأسرة هي اللبنة الأولي في صرح الأمة المسلمة،
وإذا أردت أن تقف علي أمراض الأمة، فأنظر إلى أمراض الأسرة،
وإذا أردت أن تقف علي الخلل الموجود في الأمة، فأنظر إلى الخلل الموجود في الأسرة،
يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصحيح من سند "أبو هريرة":
" كل مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ".
والله إنَّ الحقَّ معنا والباطل مع غيرنا، لكننا إلى الآن لم نحسن أن نشهد لهذا الحق شهاده عملية علي أرض الواقع،
والباطل مع غيرنا ولكنهم للأسف أحسنوا أن يلبسوا الباطل ثوب الحق، ويصل بالباطل إلى مكانة الحق،
وحين إذن ينزوي الحق ويضعف ويكبر الباطل وينتفخ، فلتكن شهادتنا للحق شهادة عملية من الأسرة، ومن البيت،
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ".
سورة "التحريم": الآية (6).
قال صلى الله عليه وسلم:
" كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ
وَالرَّجُلُ رَاعٍ في أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ في بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا
وَالخَادِمُ رَاعٍ في مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ،
قَالَ :وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ :
وَالرَّجُلُ رَاعٍ في مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ
".
أخرجه "البخاري".
وقد يقوم بالتربية في المنزل رجل فاضل صالح، وأم صالحة كريمة، ولكن يخرج ابن فاسق فاجر منحرف، فنقول:
ما عليك إلا هداية الدلالة غرست فيه الصحيح، أما هداية التوفيق فهي من عند الله عزوجل،
ولوكانت هداية التوفيق بيدنا لاستطاع "نوح" أن يهدي ابنه،
ولاستطاع سيدنا "إبراهيم" أن يهدي أباه، و"لوط" زوجته، والرسول الكريم عمه "أبا طالب".
ما عليك إلا إن تغرس الغرس الصحيح، والتوفيق من عند الله، فالبيت هو اللبنة الأولى والأساسية في صرح الدولة الإسلامية،
علينا أن نهتم بالبيوت وبأولادنا، فالبيوت المسلمة تتعرض لحرب هوجاء في كافة مجالات الحياة؛
لأن الأسرة المسلمة هي العمود الفقري في الأمة، والأم هي العمود الفقري للأسرة فإذا كانت هي نصف المجتمع، فهي تخرج لنا النصف الآخر،
فلا تتأثري أيها الأخت الفاضلة بالدعاوي المزيفة التي تقول أن البيت سجن، وأن الزوج سجان قاهر، وأن الخلفة تكاثر حيواني، وأنت في الاسلام رئة معطله وشق مهملة.
قال تعالى:
"وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ".
سورة "الروم": الآية (21).
فلا يوجد أعظم من حب الرسول صلى الله عليه وسلم لخديجة، ولا أعظم من حب "خديجة" لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،
ولا تبنى البيوت على العنف والقوة ولكن على المودة والرحمة،
ولو أطعم الرجل إمراته وأبناءه ذهبًا لتمنوا فراقه وخروجه من البيت فى كل لحظة بالعنف،
ولكن الحب وحده هو أساس البيت السليم، فالحياة لا تقوم إلا على الحب،
عن أبي هريرة قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم:
"إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحصنت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلى الجنة من أي أبواب الجنة شئت".
رواه "ابن حبان"
إذاً إجابة السؤال الذي طرحناه في البداية هي بكل تأكيد :
نعم من السهل تكوين أسرة صالحة في القرن الحادي والعشرين .
لكن ما هي الخطوات العملية التي يمكن أن نتبعها إذا أردنا بناء أسرة صالحة تكون نواة لمجتمع صالح ؟
للإجابة على هذا السؤال لابد أن نعرف أن أساس الأسرة هو زوج وزوجة و اختيار كل منهما لشريكه هو الذي يحدد مدى نجاح هذه الشراكة من عدمه .
ولو عدنا للتوجيهات النبوية الشريفة لوجدنا أن نبينا عليه الصلاة والسلام لم يترك تفصيلة صغيرة ولا كبيرة من تفاصيل حياتنا إلا دلنا على الطريق الصحيح للتعامل معها .
فجاءت الإرشادات النبوية تبين لكلا الطرفين الأسس التي بموجبها يتمكن كل طرف من اختيار شريك حياته بشكل سليم .
ومن بين الأحاديث الشريفة الموجهة لمعشر الرجال فيما يخص اختيار الزوجة ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
« تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ ».
رواه البخاري ومسلم
أما عن اختيار الزوج عن أبى حاتم المزنى قال النبي صلى الله عليه وسلم :
« إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ » .
ورواه الترمذى
ولا تنتهي التوجيهات النبوية بمجرد أن يتم الزواج ، بل ترافق الزوجين حتى في أكثر اللحظات خصوصية بينهما ،
حيث نجد نبينا يعلمهما الذِّكر الذي يحفظهما ويحفظ ذريتهما :
عن عبدالله بن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يأتي أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ في ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا ».
البخاري
هكذا تكون بداية تكوين الأسرة على أساس سليم ودعائم متينة .
وحتى يكتمل البناء فلابد أن يضع الزوجان مجموعة من الأسس والقواعد للبيت قبل إنجاب الأطفال ،
حتى إذا رزقهما الله بالأبناء يكون هناك نوع من الاتفاق والتفاهم على طريقة تربيتهم منعاً لأي تعارض أو تضارب بينهما قد يؤدي لاضطرابات في شخصية الأبناء .
ولعلنا نذكر الآن مجموعة من هذه الأسس والقواعد التي تشكل مزيجاً من التوجيهات النبوية بالإضافة إلى بعض ما ينصح به أهل الاختصاص في أمور التربية :
1- نشر روح الدعابة والمرح في البيت بشكل ليس فيه سخرية من أحد أو غيبة أو استهزاء ،
فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ضحاكاً بساماً يمازح أهل بيته ،
فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، قالت:
فسابقته فسبقتُه على رِجْلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني ،
قال: (هذه بتلك السبقة) .
أحمد وأبو داود والنسائي
2- حسن إنصات كلا الزوجين للآخر وتخصيص وقت للحوار الهادئ في أمورهما يتخلله جو من الألفة والمحبة بعيداً عن الصراخ والشجار .
3- مشاركة كل طرف للآخر في حالات الفرح والحزن .
4- تجنب التقريع واللوم الشديد إذا أخطأ أحد الطرفين
واستبدال هذه الوسائل بالنقد البناء القائم على النصيحة اللينة الصادقة التي ليس فيها أي محاولة انتقاص من شخصية الطرف المخطئ ولا محاولة استعراض عضلات من الطرف الناصح .
5- تشجيع كل طرف للآخر في حالة الأزمات والمواقف الصعبة
ورفع الروح المعنوية له بذكر محاسنه والثناء عليه و تذكيره بالله عز وجل .
ولنا في أمنا خديجة رضي الله عنها أسوة حسنة حينما لجأ إليها النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول الوحي عليه لأول مرة ،
فكانت نعم الزوجة المعينة لزوجها فهدأت من روعه وشدت من أزره وقالت له بعد أن ذكرت خصاله الحميدة ( والله لن يضيعك الله أبداً ) .
6- تغليب حسن الظن بين الزوجين
وعدم الاستماع للإشاعات التي تحاول هدم البيت وتشويه صورة كل طرف لدى الآخر ،
فلا يكاد بيت يسلم من مثل هذه المحاولات والمكائد ،
فحتى بيت النبوة أكرم البيوت وأشرفها تعرض للإشاعة في حادثة الإفك المشهورة ،
ولعل هذا فيه تسلية للبيوت المسلمة التي تُروَّج ضدها الأكاذيب بأن يصبروا ويلجئوا إلى الله ويثقوا به أولاً ثم في أحبائهم والله سيظهر الحقائق ويكشف كيد الكائدين .
7- محاولة كلا الزوجين إصلاح العيوب في شخصيتهما و تقوية الوازع الديني لديهما
حتى يكونا قدوة أمام الأبناء في المستقبل لأن الابن يقلد أباه وأمه في كل حركاتهما وسكناتهما ،
ولذلك فإن السلف الصالح اهتموا اهتماماً شديداً بالإشراف على من يتولون تربية أبنائهم ،
حيث يُروى عن الشافعي – رحمه الله- أنه قال لعبد الصمد مؤدب أبناء الخليفة هارون الرشيد:
" ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحك نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم ما تكرهه" .
8- حرص الزوجين على أداء العبادات
و اغتنام بعض الفرص لأداء النوافل معاً لتقوية الرابط بينهما أكثر
و محاولة أن يكون كل منهما محرض للآخر ومذكر له بالواجبات الدينية بأسلوب بعيد عن التعالي والتكبر خاصة عندما يكون النصح من جانب الزوجة .
9- اقتناء الزوجين للكتب التي تنمي لديهم بعض المعلومات الشرعية والدينية الأساسية
واللازمة لبناء شخصية مسلمة صحيحة ( وأقصد هنا الأبناء ) ،
كذلك لا بأس من وجود بعض كتب التربية والكتب التي ترشدهما عن كيفية الاهتمام بالصحة البدنية والنفسية للأبناء .
10- اتفاق الزوجين من البداية على أن يتم تقرير الأمور المتعلقة بمصير الأبناء بالتشاور فيما بينهما
ولا يستأثر أي طرف بالقرار و يلغي دور الآخر تماماً فمنهج الشورى هو المنهج الرباني الذي يحثنا عليه القرآن الكريم ،
حتى في مسألة قد تبدو صغيرة في نظر البعض وهي مسألة فطام الأبناء ، فنجد قوله تعالى :
{ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } .
البقرة 233
11- وضع آلية معينة لفض الخلافات والنزاعات التي قد تنشأ في الأسرة فيما بعد
وعدم تأجيل ذلك إلى حين وجود الأبناء لأن وجود نظام معين مشترك بين الزوجين وموحد يخلق نوع من التوازن في شخصية الأبناء وفي البيت ككل .
12- توزيع الأدوار بين الزوجين بحيث لا يتعدى أحدهما على اختصاصات الآخر إلا إذا طلب هو منه النصح أو العون .
13- تقوية العلاقات بين كل طرف وأسرة الطرف الآخر
لأن الزواج هو امتزاج وتداخل وانصهار بين الأسر ،
لذلك على الزوجين محاولة توضيح الخطوط العريضة التي اتفقا عليها لتربية أبنائهم ،و شرحها لأسرتيهما ،
لأن الأبناء لن ينشئوا في معزل عن الأخوال والأعمام والأجداد لذلك لابد أن يكون مسار التربية الذي اتفق عليه الزوجان واضح أمام الجميع حفاظاً على التوازن المطلوب .
أخيراً طالما كان الاختيار صحيحاً من البداية ،
وطالما أن الزوجين كليهما محافظ على دينه والتزاماته تجاه الله عز وجل ،
ويحاول قدر الإمكان السير على خطى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ،و على منهج السلف الصالح ،
فلم يبق لهما إلا الدعاء والتضرع إلى الله أن يرزقهما الذرية الصالحة حتى يكونا من عباد الرحمن الذين قال عنهم سبحانه وتعالى :
{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا }
(74) سورة الفرقان .
م ـ ـ ن ـ ـ ق ـ ـ و ـ ـ ل